الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الرحيق المختوم **
واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى، وعلى نطاق أوسع، ولكن كانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا. وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلًا إن كان فيهم عمار، فإنه يشك فيه، وثماني عشرة أوتسع عشرة امرأة.
عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهديا ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد ضَوَى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه. وقالت البطارقة: صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم. ولكن رأي النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعًا. فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنًا ما كان. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في دينى ولا دين أحد من هذه الملل ؟ قال جعفر بن أبي طالب ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين: أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل منا القوى الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم،وقذف المحصنات،وأمرنا أن نعبد الله وحده،لا نشرك به شيئًا،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك. فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه على، فقرأ عليه صدرًا من: فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائنًا ما كان، فلما دخلوا عليه وسألهم، قال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول. فأخذ النجاشي عودًا من الأرض ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نَخَرْتُم والله. ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي ـ والشيوم: الآمنون بلسان الحبشة ـ من سَبَّكم غَرِم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لى دَبْرًا من ذهب وإني آذيت رجلًا منكم ـ والدبر: الجبل بلسان الحبشة. ثم قال لحاشيته: ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فوالله ما أخذ الله منـي الرشـوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشـوة فيــه، وما أطاع الناس في فأطيعـهم فيه. قالت أم سلمة التي تروى هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. هذه رواية ابن إسحاق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين. ولكن الأسئلة والأجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وبين جعفر بن أبي طالب في الوفادة الثانية هي نفس الأسئلة والأجوبة التي ذكرها ابن إسحاق هنا، ثم إن تلك الأسئلة تدل بفحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي.
ولما أخفق المشركون في مكيدتهم، وفشلوا في استرداد المهاجرين استشاطوا غضبًا، وكادوا يتميزون غيظًا، فاشتدت ضراوتهم وانقضوا على بقية المسلمين، ومدوا أيديهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء، وظهرت منهم تصرفات تدل على أنهم أرادوا القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليستأصلوا جذور الفتنة التي أقضت مضاجعهم، حسب زعمهم. أما بالنسبة للمسلمين فإن الباقين منهم في مكة كانوا قليلين جدًا، وكانوا إما ذوى شرف ومنعة، أو محتمين بجوار أحد، ومع ذلك كانوا يخفون إسلامهم ويبتعدون عن أعين الطغاة بقدر الإمكان، ولكنهم مع هذه الحيطة والحذر لم يسلموا كل السلامة من الأذى والخسف والجور. وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلى ويعبد الله أمام أعين الطغاة، ويدعو إلى الله سرًا وجهرًا لا يمنعه عن ذلك مانع، ولا يصرفه عنه شيء؛ إذ كان ذلك من جملة تبليغ رسالة الله منذ أمره الله سبحانه وتعالى بقوله: ومما روت لنا كتب السنة والسيرة من الأحداث التي تشهد القرائن بأنها وقعت في هذه الفترة: أن عتيبة بن أبي لهب أتى يومًا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أكفر بـ ومنها: ما ذكر أن عقبة بن أبي مُعَيْط وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان. ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفًا بالبيت فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها. فوقف ثم قال: (أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسى بيده، لقد جئتكم بالذبح)، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولًا. فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه، وهو يبكى ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، قال ابن عمرو: فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشًا نالوا منه قط. انتهي ملخصًا. وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا؛ فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟. وفي حديث أسماء: فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا وعليه غدائر أربـع، فـخرج وهــو يـقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئًا من غدائره إلا رجع معنــا.
خلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق، وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أسلم في أواخر السنة السادسة من النبوة، والأغلب أنه أسلم في شهر ذى الحجة. وسبب إسلامه: أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا عند الصفا فآذاه ونال منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يكلمه، ثم ضربه أبو جهل بحجر في رأسه فَشَجَّهُ حتى نزف منه الدم، ثم انصرف عنه إلى نادى قريش عند الكعبة، فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد الله بن جُدْعَان في مسكن لها على الصفا ترى ذلك، وأقبل حمزة من القَنَص مُتَوَشِّحًا قوسه، فأخبرته المولاة بما رأت من أبي جهل، فغضب حمزة ـ وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة ـ فخرج يسعى، لم يقف لأحد؛ معدًا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد قام على رأسه، وقال له: يا مُصَفِّرَ اسْتَه، تشتم ابن أخي وأنا على دينه ؟ ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، فثار رجال من بني مخزوم ـ حى أبي جهل ـ وثار بنو هاشم ـ حي حمزة ـ فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا. وكان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل، أبي أن يهان مولاه، ثم شرح الله صدره فاستمسك بالعروة الوثقى، واعتز به المسلمون أيما اعتزاز.
وخلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان أضاء برق آخر أشد بريقًا وإضاءة من الأول، ألا وهو إسلام عمر بن الخطاب، أسلم في ذى الحجـة سـنة سـت مـن النبـوة. بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي الله عنه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا الله تعالى لإسلامه. فقد أخرج الترمذى عن ابن عمر، وصححه، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللّهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام) فكان أحبهما إلى الله عمر رضي الله عنه. وبعد إدارة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلامه يبدو أن نزول الإسلام في قلبه كان تدريجيًا، ولكن قبل أن نسوق خلاصتها نرى أن نشير إلى ما كان يتمتع به رضي الله عنه من العواطف والمشاعر. كان رضي الله عنه معروفًا بحدة الطبع وقوة الشكيمة، وطالما لقى المسلمون منه ألوان الأذى، والظاهر أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة؛ احترامه للتقاليد التي سنها الآباء والأجداد وتحمسه لها، ثم إعجابه بصلابة المسلمين، وباحتمالهم البلاء في سبيل العقيدة، ثم الشكوك التي كانت تساوره ـ كأي عاقل ـ في أن ما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجل وأزكى من غيره، ولهذا ما إن يَثُور حتى يَخُور. وخلاصة الروايات ـ مع الجمع بينها ـ في إسلامه رضي الله عنه: أنه التجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته، فجاء إلى الحرم، ودخل في ستر الكعبة، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وقد استفتح سورة كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه، لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية، وعصبية التقليد، والتعاظم بدين الآباء هي غالبـة على مخ الحقيقة التي كان يتهمس بها قلبه، فبقى مجدًا في عمله ضد الإسلام غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشرة. وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج يومًا متوشحًا سيفه يريد القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيم بن عبد الله النحام العدوي، أو رجل من بني زهرة، أو رجل من بني مخزوم فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدًا. قال: كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمدًا؟ فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبوت، وتركت دينك الذي كنت عليه، قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر! إن أختك وخَتَنَكَ قد صبوا، وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر دامرًا حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيها: [طه] يقرئهما إياها ـ وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن ـ فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة ـ أخت عمر ـ الصحيفة. وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ فقالا: ما عدا حديثًا تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما. فقال له ختنه: يا عمر، أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدًا. فجاءت أخته فرفعته عن زوجها، فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها ـ وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها ـ فقالت، وهي غضبى: يا عمر، إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. فلما يئس عمر، ورأي ما بأخته من الدم ندم واستحيا، وقال: أعطونى هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ: فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس: (اللّهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا. فأخذ عمر سيفه، فتوشحه، ثم انطلق حتى أتى الدار، فضرب الباب، فقام رجل ينظر من خلل الباب، فرآه متوشحًا السيف، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم ؟ قالوا: عمر؟ فقال: وعمر؟ افتحوا له الباب، فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرًا قتلناه بسيفه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه، فخرج إلى عمر حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، ثم جبذه جبذة شديدة فقال: (أما أنت منتهيًا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزى والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة؟ اللهم، هذا عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)، فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. وأسلم، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد. كان عمر رضي الله عنه ذا شكيمة لا يرام، وقد أثار إسلامه ضجة بين المشركين، وشعورا لهم بالذلة والهوان، وكسا المسلمين عزة وشرفًا وسرورًا. روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال: لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة، قال: قلت: أبو جهل، فأتيت حتى ضربت عليه بابه، فخرج إلىّ، وقال: أهلًا وسهلًا، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك إني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به. قال: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله، وقبح ما جئت به. وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال، فيضربونه ويضربهم، فجئت ـ أي حين أسلمت ـ إلى خالى ـ وهو العاصى بن هاشم ـ فأعلمته فدخل البيت، قال: وذهبت إلى رجل من كبراء قريش ـ لعله أبو جهل ـ فأعلمته فدخل البيت. وفي رواية لابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر بن الخطاب لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أنشأ للحديث؟ فقالوا: جميل بن معمر الجمحى. فخرج إليه وأنا معه، أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه، فقال: ياجميل، إني قد أسلمت، قال: فو الله ما رد عليه كلمة حتى قام عامدًا إلى المسجد فنادى [بأعلى صوته] أن: يا قريش، إن ابن الخطاب قد صبأ. فقال عمر ـ وهو خلفه: كذب، ولكنى قد أسلمت [وآمنت بالله وصدقت رسوله]، فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وطَلَح ـ أي أعيا ـ عمر، فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله.روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال:بينما هو ـ أي عمر ـ في الدار خائفًا إذ جاءه العاص بن وائل السهمى أبو عمرو،وعليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير ـ وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية ـ فقال له: ما لك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت، قال: لا سبيل إليك ـ بعد أن قالها أمنت ـ فخرج العاص، فلقى الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ، قال: لا سبيل إليه، فَكَرَّ الناس. وفي لفظ في رواية ابن إسحاق: والله، لكأنما كانوا ثوبًا كُشِطَ عنه. هذا بالنسبة إلى المشركين، أما بالنسبة إلى المسلمين فروى مجاهد عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب: لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلى بثلاثة أيام ـ ثم قص عليه قصة إسلامه. وقال في آخره: قلت ـ أي حين أسلمت: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: (بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم)، قال: قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن، فأخرجناه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إلىّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم (الفاروق) يومئذ. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر. وعن صهيب بن سنان الرومى رضي الله عنه قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعى إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به. وعن عبد الله بن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين ـ حمزة بن عبد المطلب وعمـر بن الخطاب رضي الله عنهما أخذت السحائب تتقشع، وأفاق المشركون عن سكرهم في تنكيلهم بالمسلمين، وغيروا تفكيرهم في معاملتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، واختاروا أسلوب المساومات وتقديم الرغائب والمغريات، ولم يدر هؤلاء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس لا يساوي جناح بعوضة أمام دين الله والدعوة إليه، فخابوا وفشلوا فيما أرادوا. قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظى قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا، قال يومًا ـ وهو في نادى قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد، قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة،حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَةِ في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال رسول صلى الله عليه وسلم: (قل يا أبا الوليد أسمع). قال: يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ـ أو كما قال له ـ حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: (أقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال: نعم، قال: (فاسمع منى)، قال:أفعل، فقال: فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم. وفي روايات أخرى: أن عتبة استمع حتى إذا بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:
|